اليابان تستعيد طموحاتها الصناعية

مقدمة

في خطوة جريئة وغير متوقعة، أعلنت اليابان عن مشروع ضخم يهدف إلى استعادة مكانتها كقوة عظمى في صناعة أشباه الموصلات العالمية، وهي الصناعة التي كانت تحتل فيها موقع الصدارة خلال ثمانينيات القرن الماضي. المشروع يتمثل في تأسيس شركة “رابيدوس” (Rapidus) عام 2022، التي تُعد الذراع التنفيذية لهذه الاستراتيجية الوطنية الطموحة. الفيديو الذي نحن بصدد تحليله يسلط الضوء على هذه المبادرة الجريئة، ويقدم تقييماً دقيقاً للعوامل التي أدت إلى تراجع اليابان في هذه الصناعة، والتحديات التي تواجهها اليوم، والأهداف التي تسعى لتحقيقها. ومع ذلك، هناك العديد من التفاصيل الإضافية حول المشروع لم يتم ذكرها في الفيديو، والتي سنتناولها في هذا التقرير لتقديم صورة أكثر شمولية وعمق.

تراجع الإمبراطورية اليابانية في صناعة أشباه الموصلات

على الرغم من أن اليابان كانت ذات يوم القوة المهيمنة في سوق أشباه الموصلات العالمي، إلا أنها شهدت تراجعاً ملحوظاً منذ أوائل التسعينيات. هذا التراجع لم يكن نتيجة عامل واحد فقط، بل كان نتيجة تفاعل عدة عوامل تاريخية واستراتيجية:

  1. التدخلات التجارية والسياسية:
    في ثمانينيات القرن الماضي، تعرضت الشركات اليابانية لضغوط هائلة من الولايات المتحدة، التي سعت إلى الحد من هيمنتها المتزايدة على السوق العالمي. هذه الضغوط تجلّت في اتفاقيات تجارية غير متكافئة، وفرض قيود على الصادرات اليابانية، مما أدى إلى تقويض قدرتها التنافسية.
  2. نموذج التكامل الرأسي التقليدي:
    اعتمدت الشركات اليابانية على نموذج “التكامل الرأسي”، حيث سيطرت على جميع مراحل الإنتاج بدءاً من التصميم وحتى التصنيع والتسويق. بينما اتبعت الدول المنافسة مثل كوريا الجنوبية وتايوان نموذجاً أكثر مرونة يعتمد على “التخصص وتقسيم العمل”، حيث ركزت كل شركة على جزء معين من سلسلة القيمة. هذا النموذج أثبت كفاءته العالية في تعزيز الابتكار وتقليل التكاليف، مما جعل الشركات اليابانية أقل تنافسية في مواجهة التطورات السريعة في الصناعة.
  3. ضعف الاستثمار في البحث والتطوير:
    خلال فترة التسعينيات وأوائل الألفينات، خفضت الشركات اليابانية بشكل كبير استثماراتها في البحث والتطوير، وهو ما أثر سلباً على قدرتها على مواكبة التطورات التكنولوجية السريعة في صناعة أشباه الموصلات. في الوقت نفسه، زادت الشركات المنافسة مثل TSMC وسامسونج من استثماراتها في البحث والتطوير، مما ساعدها على تحقيق قفزات نوعية في تقنيات التصنيع.

نقطة التحول: مكالمة هاتفية من IBM
تشير أحداث الفيديو إلى أن نقطة التحول الرئيسية في هذا المشهد كانت مكالمة هاتفية جرت في عام 2020. تلقى مسؤول ياباني رفيع المستوى اتصالاً من شركة IBM الأمريكية العملاقة، التي عرضت التعاون مع اليابان لإنتاج أشباه موصلات بتقنية 2 نانومتر على الأراضي اليابانية. هذا العرض جاء في وقت حرج بالنسبة لليابان، حيث كانت تبحث عن فرصة لإحياء صناعتها المتدهورة.
العرض لم يكن مجرد فرصة تجارية، بل كان بمثابة رسالة واضحة بأن اليابان لا تزال تمتلك إمكانات كبيرة يمكن استغلالها إذا ما توفرت الشراكات المناسبة والتكنولوجيا المتقدمة. شركة IBM ليست مجرد شريك تقني، بل تلعب دوراً محورياً في توفير التكنولوجيا الأساسية اللازمة لإنتاج رقائق 2 نانومتر. تمتلك IBM براءات اختراع متقدمة في مجال تصنيع أشباه الموصلات، بما في ذلك تقنية “GAAFET” (Transistors Gate-All-Around Field-Effect)، التي تعتبر الأساس لصناعة الرقائق الحديثة. كما تم اختيار مدينة “سابورو” في محافظة هوكايدو لتكون موقعاً لأول مصنع لشركة “رابيدوس”، لما تتمتع به من بيئة باردة ومناسبة لتشغيل المعدات الدقيقة المستخدمة في تصنيع الرقائق.
رابيدوس: مشروع قومي لاستعادة الريادة
استجابت الحكومة اليابانية لهذا العرض بحماس كبير، وأطلقت مشروع “رابيدوس” كتحالف وطني يجمع بين كبرى الشركات اليابانية في مجالات الإلكترونيات والتكنولوجيا. الشركة الجديدة تم تأسيسها بدعم مالي حكومي ضخم، بالإضافة إلى استثمارات مباشرة من الشركات اليابانية الكبرى. تضم “رابيدوس” مجموعة من أكبر الشركات اليابانية، بما في ذلك “تويوتا”، “سوني”، “كيوسيرا”، “NTT”، و”ميتسوبيشي إلكتريك”. هذه الشركات ليست فقط مستثمرة مالياً، بل تسهم أيضاً بخبراتها التقنية وإمكانياتها اللوجستية لضمان نجاح المشروع. إلى جانب IBM، تعاقدت “رابيدوس” مع شركات أوروبية مثل ASML الهولندية، التي تُعتبر المورد الوحيد في العالم لمعدات الليثوغرافيا المتقدمة باستخدام الأشعة فوق البنفسجية (EUV). هذه المعدات ضرورية لإنتاج رقائق 2 نانومتر، مما يجعل التعاون مع ASML أمراً استراتيجياً.

أهداف طموحة وميزانية ضخمة
وضعت شركة “رابيدوس” نصب أعينها هدفاً طموحاً للغاية، وهو إنتاج أحدث جيل من الرقائق الإلكترونية بتقنية 2 نانومتر، وهي التقنية التي تتنافس عليها كبرى الشركات العالمية مثل TSMC التايوانية وسامسونج الكورية الجنوبية. لتحقيق هذا الهدف، خصصت الحكومة اليابانية ميزانية استثنائية تتجاوز مليارات الدولارات، بالإضافة إلى استثمارات ضخمة من الشركات اليابانية المساهمة في المشروع.
هذا الدعم المالي الكبير يعكس إدراك الحكومة اليابانية لأهمية صناعة أشباه الموصلات كصناعة استراتيجية حيوية للاقتصاد الوطني والأمن القومي. فالرقائق الإلكترونية أصبحت العمود الفقري للتكنولوجيا الحديثة، وتشمل تطبيقاتها الهواتف الذكية، السيارات الكهربائية، الذكاء الاصطناعي، وأنظمة الدفاع. يهدف المشروع إلى خلق آلاف الوظائف الجديدة في اليابان، وتعزيز الاقتصاد المحلي من خلال جذب الاستثمارات الأجنبية. كما يسعى المشروع إلى تقليل اعتماد اليابان على الواردات من الرقائق الإلكترونية، خاصة من تايوان، التي تسيطر على أكثر من 60% من السوق العالمي. تولي الحكومة اليابانية أهمية كبيرة للأبعاد الأمنية للمشروع، حيث أصبحت الرقائق الإلكترونية جزءاً أساسياً من البنية التحتية الدفاعية، بما في ذلك أنظمة الرادار والاتصالات العسكرية. لذلك، فإن إنتاج الرقائق محلياً يعزز الأمن القومي ويقلل من التبعية للدول الأخرى.
تحديات جمة في الطريق إلى القمة
على الرغم من الطموحات الكبيرة والدعم المالي الضخم، تواجه شركة “رابيدوس” تحديات كبيرة في سعيها لاستعادة مكانة اليابان في صناعة أشباه الموصلات. من أبرز هذه التحديات:

  • المنافسة الشرسة من العمالقة الحاليين:
    تهيمن شركتان عملاقتان، TSMC وسامسونج، على سوق أشباه الموصلات المتقدمة عالمياً، وتمتلكان خبرة واسعة وبنية تحتية متطورة. منافسة هاتين الشركتين تتطلب من “رابيدوس” جهوداً مضاعفة وابتكاراً مستمراً.
  • التكنولوجيا فائقة التطور:
    تقنية 2 نانومتر تمثل أحدث ما توصلت إليه صناعة أشباه الموصلات، وتتطلب خبرات تقنية متقدمة ومعدات تصنيع بالغة الدقة. الوصول إلى هذه التقنية في غضون سنوات قليلة يعتبر تحدياً تقنياً هائلاً.
  • نقص الكفاءات والخبرات المتخصصة:
    تعتمد صناعة أشباه الموصلات المتقدمة على مهندسين وفنيين ذوي مهارات عالية وتخصصات دقيقة. تعاني اليابان من نقص في الكفاءات المؤهلة في هذا المجال، مما يتطلب استقطاب خبرات أجنبية وتدريب الكوادر المحلية بشكل مكثف.
    أطلقت الحكومة اليابانية برامج تدريبية مكثفة بالتعاون مع الجامعات والمعاهد التقنية لتأهيل الكوادر المحلية. كما أبرمت شراكات مع مؤسسات تعليمية دولية لتبادل الخبرات وجذب المواهب العالمية. عملية تصنيع أشباه الموصلات تتطلب استهلاكاً كبيراً للطاقة والمياه، وهو ما يشكل تحدياً بيئياً. تعمل “رابيدوس” على تطوير تقنيات صديقة للبيئة لتقليل الانبعاثات الكربونية واستهلاك الموارد الطبيعية. خاتمة: رهان كبير ومستقبل غامض
    يختتم الفيديو تحليله بالتأكيد على أن مشروع “رابيدوس” يمثل فرصة تاريخية لليابان للعودة إلى الساحة العالمية في صناعة أشباه الموصلات. ومع ذلك، فإن هذا المشروع يحمل في طياته رهاناً كبيراً ينطوي على مخاطر وتحديات جمة. نجاح “رابيدوس” سيعتمد على قدرتها على التغلب على هذه التحديات، وتحقيق اختراقات تقنية، وبناء شراكات استراتيجية، واستقطاب الكفاءات اللازمة.
    يبقى السؤال مفتوحاً: هل ستنجح اليابان في مفاجأة العالم مرة أخرى، واستعادة عرش صناعة أشباه الموصلات؟ الإجابة تعتمد على مدى التزام الحكومة اليابانية والشركات المشاركة في المشروع بتحقيق هذه الأهداف الطموحة، وفي تقديري الشخصي أنه حتى لو تمكنت اليابان من ذلك فهذا وحده لن يمكنها من ازدهار الصناعة والاقتصاد الياباني ولكن سيكون له تأثير على توفر الإمدادات من أشباه الموصلات سواءً للصناعة اليابانية أو للتصدير الخارجي.

من ابن خلدون

مدونة ابن خلدون لنشر المقالات الثقافة والاقتصادية والاجتماعية، وهي تقدم المختصر المفيد من الوثائقيات والبودكاست والبرامج المنشورة على الشبكة العنكبوتية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

You cannot copy content of this page