المقدمة:
في الأساطير اليونانية، كان هناك وحش اسمه المينوتور يشبه الإنسان والثور معًا، عاش في قصر فيه متاهة معقدة بناه الملك له في جزيرة كريت، وكان يُقدم له كل عام مجموعة من الشباب كقربان لتجنب غضب الإله بوسيدون، لكن البطل ثيسوس تسلل إلى هذا المينى مع خيط من خيوط الحرير أعطته إياه أريادني (ابنة الملك)، وقتل الوحش وأعاد الشباب إلى بلادهم.
من الكتب العميقة التي قرأتها كتاب “المينوتور العالمي” ، والتي يقارن فيها الاقتصادي اليوناني يانيس فاروفاكيس هذا الوحش بالولايات المتحدة الأمريكية في العصر الحديث، فمثلما كان المينوتور يبتلع الأضاحي لصالح نظام غير عادل، أصبحت الولايات المتحدة “الحيوان” الذي يبتلع الفائض الاقتصادي (الثروة الزائدة) من دول العالم، مما خلق نظامًا يشبه المتاهة المعقدة من الديون والفقاعات المالية، هذا الكتاب، الذي يمزج بين التاريخ والتحليل السياسي، يُظهر كيف تحولت واشنطن من دولة مُعيدة إعمار العالم إلى محور لاستهلاك الفائض، مما خلق نظامًا تسبب في أزمات متكررة مثل أزمة 2008، وهذه الرؤية تُعيد تشكيل فهمنا لكيفية عمل الاقتصاد العالمي وتداعياته الاجتماعية والسياسية.
الجزء الأول: نشأة النظام: مؤتمر بريتون وودز (1944) وبدايات “الخطة العالمية”
مؤتمر بريتون وودز: إنشاء النظام المالي العالمي
عقد مؤتمر بريتون وودز في 1944 بنيوهامشير الأمريكية، بمشاركة 44 دولة، بهدف إعادة بناء النظام المالي العالمي بعد الدمار الذي خلفته الحرب، وقد أنتج المؤتمر اتفاقين أساسيين:
- نظام بريتون وودز للأسعار : ربط الدولار بالذهب بسعر ثابت (35 دولارًا للأوقية)، بينما ربطت بقية العملات بالدولار.
- إنشاء مؤسسات عالمية : مثل صندوق النقد الدولي (IMF) والبنك الدولي (World Bank)، اللذين كانا مهمتهما دعم إعادة الإعمار وتمويل المشاريع التنموية.
“الخطة العالمية”:
تمثل دور الولايات المتحدة كمحور إعادة الإعمار حيث كان الهدف الأمريكي واضحًا:
- إعادة بناء أوروبا الشرقية والغربية عبر خطة مارشال (1948–1952)، التي خصصت 13 مليار دولار (حوالي 150 مليار دولار اليوم) لإعادة بناء البنية التحتية وتعزيز الإنتاج.
- تحقيق التوازن النقدي : اعتمد النظام على أن تُعيد الولايات المتحدة توزيع فائضها التجاري (الذي تراكم بسبب ارتفاع إنتاجها الصناعي) على الدول الأخرى، مما يخلق طلبًا عالميًا يدعم النمو.
مفارقة تريفين: أزمة النظام منذ البداية
في 1960، حذر الاقتصادي الأمريكي روبرت تريفين من مفارقة تريفين ، وهي تناقض لا حل له:
- الدولار كعملة احتياطية عالمية : يتطلب أن تكون الولايات المتحدة مصدِّرة لتعزيز الثقة في الدولار.
- الحفاظ على التوازن التجاري : يتطلب أن تُقلل الولايات المتحدة من صادراتها لتجنب العجز.
عندما بدأ العجز الأمريكي يتزايد بسبب النفقات العسكرية (حرب فيتنام) وبرامج الرفاهية، بدأ احتياطي الذهب الأمريكي (الذي كان يُستخدم لدعم الدولار) في الانخفاض، وبحلول 1971، كان الاحتياطي أقل من الديون الخارجية، مما دفع الرئيس نيكسون إلى قطع الربط بالذهب ، وإنهاء نظام بريتون وودز.
الجزءالثاني: المينوتور يلتهم الفائض: النظام الجديد (1971–2008) انهيار بريتون وودز وولادة “العولمة المالية”
بعد قطع الربط بالذهب، تحول النظام إلى نظام سعر صرف العائم floating (قابل للتغير)، أي تم تعويم الدولار وجعل سعره يعتمد على العرض والطلب،
إلا أن الدولار تمكن من الحفاظ على هيمنته عبر:
- الطلب العالمي على الدولار : كعملة تسوية التجارة (مثل النفط)، مما خلق “طلبًا اصطناعيًا” على العملة، حيث كانت هناك اتفاقية وقعت مع السعودية ليكون الدولار هو العملة الوحيدة التي يتم بها بيع النفط، فكل دولة تشتري النفط تضطر للدفع بالدولار، مما يجعل دول العالم تهتم بشراء هذه العملة.
- الأسواق المالية الكبيرة : مثل سوق السندات الأمريكية (Treasury Bonds)، التي أصبحت ملاذًا آمنًا للدول والشركات.
دور ألمانيا واليابان والصين كمصدرات للفائض
- حافظت ألمانيا على الأجور منخفضة والادخار مرتفعًا ، مما سمح لها بتصدير سلع رخيصة (مثل السيارات والماكينات).
- بلغ عجز ألمانيا التجاري مع الولايات المتحدة 60 مليار دولار سنويًا في 2000.
- الصين في 1990–2000 :بعد انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية (2001)، أصبحت “ورشة العالم”، حيث وفرت سلعًا رخيصة بفضل العمالة الرخيصة، وتضاعف فائضها التجاري مع الولايات المتحدة من 8 مليارات دولار في 1999 إلى 276 مليار دولار في 2007.
- كيف عمل مستودع الفائض الأمريكي: استخدمت الولايات المتحدة فائض الدول مثل الصين وألمانيا لتمويل استهلاكها عبر:
- شراء السندات الأمريكية: استثمرت الدول المُصدرة (مثل اليابان) 4.5 تريليونات دولار في سندات الخزانة الأمريكية حتى 2008.
- الاقتراض الرخيص : انخفضت أسعار الفائدة بسبب السيولة الكبيرة، مما سمح للأفراد والشركات الأمريكية بالاقتراض بسهولة.
الفقاعات المالية: من الإنترنت إلى العقارات
- فقاعة الإنترنت (1995–2000) : استثمرت البنوك الأمريكية 500 مليار دولار في شركات الإنترنت غير الربحية، مثل “ديوتون”، وفي عام 2000م انفجرت فقاعة الإنترنت وانهارت الكثير من الشركات حيث انخفض مؤشرNASDAQ بنسبة 78%.
- فقاعة العقار (2003–2008) : اعتمدت البنوك على رهون عقارية مدعومة (MBS) لبيع الديون للمستثمرين، وقد تضاعفت الديون العقارية الأمريكية من 4.9 تريليونات دولار عام 2000 إلى 10.7 تريليونات عام 2007.
دور البنوك الاستثمارية: من جولدمان ساكس إلى ليمن براذرز
- الرهون العقارية المدعومة (MBS) : قسمت البنوك القروض العقارية إلى شرائح (tranches) وباعتها للمستثمرين كـ “أصول آمنة”.
- عندما بدأ المُقترضون في التخلف عن السداد (خاصة في فلوريدا وكاليفورنيا)، انهارت هذه الأصول.
- وقد كانت وكالة موديز وستاندرد آند بورز أعطت هذه الأصول تصنيفات عالية (مثل AAA)، مما أدى إلى اعتمادها كاستثمارات آمنة (ِِِAAA).
الجزء الثالث: انهيارالمينوتور (أزمة 2008 وتداعياتها) والأسباب المباشرة لأزمة 2008
الديون المفرطة :
- ديون الأسر الأمريكية بلغت 13.8 تريليون دولار عام 2007، بزيادة 200% عن 1989.
- 25% من القروض العقارية كانت لعملاء “عديمي الدخل الثابت” (subprime).
- انهيار البنوك :
- بنك ليمن براذرز تقدم للإفلاس عام 2008 بسبب خسائر بلغت 39 مليار دولار.
- حصلت بنوك وول ستريت على إنقاذ حكومي بقيمة 700 مليار دولار (خطة Paulson).
- تأثيرات الأزمة على الاقتصاد العالمي (الركود العالمي)
- انخفض الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي بنسبة 4% عام 2009.
- اليونان واسبانيا وآيرلندا وقعت في أزمة دين، مع نسبة عجز تجاوزت 10% من الناتج.
- الركود الزمني :
- في اليابان، نما الناتج المحلي بمعدل 0.8% سنويًا بين 1991 و2012 بسبب عجز الطلب.
- في أوروبا، تراجعت معدلات التوظيف إلى مستويات 1990.
3. التفاوت والغضب الشعبي في الولايات المتحدة :
- 1% من الأثرياء امتلكوا 42% من الثروة في 2016، مقارنة بـ 33% عام 1980.
- دخل الطبقة الوسطى تراجع بنسبة 8% بين 2000 و2014.
الحركات الاحتجاجية :
- Occupy Wall Street (2011) دعت إلى محاسبة البنوك.
- اليمين الشعبوي في أوروبا (مثل حزب فوكس في هولندا) استفاد من غضب الناخبين.
الجزءالرابع: الحلول المقترحة من الكاتب لتجاوز الأزمة
خطة “الديون jubilee”
- الغرض : إلغاء الديون غير القابلة للسداد (مثل ديون اليونان البالغة 320 مليار يورو عام 2015).
- التحديات :
- معارضة ألمانيا التي ترى ذلك “تهربًا من المسؤولية”.
- عدم وجود آلية عالمية لتنفيذ مثل هذه الخطوات.
إصلاح منطقة اليورو
- ضمان البطالة المشترك : تمويله من ضرائب الشركات عبر أوروبا.
- مصرف مركزي أوروبي : لإدارة أزمات الديون مثل تلك التي حدثت في 2012.
- التحديات :
- معارضة ألمانيا لـ “الضمان المالي” (Debt Mutualization).
خطة جديدة خضراء
- الهدف : تحويل 50% من الطاقة إلى متجددة بحلول 2030، مع إنشاء صندوق عالمي لتمويل مشاريع الطاقة النظيفة.
- التحديات :
- تكلفة 100 تريليون دولار، وفقًا لصندوق النقد الدولي.
- منافسة شركات النفط (مثل شيفرون) التي ترفض التخلي عن مصادر الدخل الحالية.
- الحاجة لإصلاح المؤسسات المالية
- فرض ضرائب عالمية على المعاملات المالية : بنسبة 0.1% لتمويل البرامج الاجتماعية.
- الحد من “المؤسسات المالية الكبيرة التي ينظر إليها أنها أكبر من أن تفلس (Too Big To Fail) عبر تقسيم البنوك العملاقة.
الانتقادات والتحديات
من ضمن الانتقادات على الكتاب التركيز المبالغ فيه على الولايات المتحدة وكأنه لا يوجد أطراف دولية فاعلة في العالم، ونحن نعلم خاصة في وقتنا الحالي أن هناك منافسين للولايات المتحدة لهم حجمهم الكبير وأثرهم على الاقتصادي العالمي، فاقتصاد الصين تضاعف 10 مرات بين 1990 و2010، مما جعلها جزءًا أساسيًا من النظام، وبعض الباحثين (مثل economist Joseph Stiglitz) يرون أن الصين أصبحت “المينوتور” الجديد عبر استثماراتها الخارجية.
كما توجد صعوبة كبيرة في تنفيذ الإصلاحات المقترحة من قبل المؤلف، نتيجة الخلافات بين الصين والولايات المتحدة حول من يدفع ثمن الإصلاحات، كما أن المصالح الاقتصادية لشركات مثل Apple (التي تعتمد على التصنيع الصيني) تعيق التغيير.
ومن الانتقادات على الكتاب كذلك أنه يتجاهل العوامل الاجتماعية ودور الثقافة الاستهلاكية فيما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية ، حيث يشير بعض الباحثين إلى أن تفضيلات الاستهلاك للمستهلكين في الولايات المتحدة (مثل الميل لشراء السيارات الكبيرة) والثقافة الاستهلاكية السائدة كانت جزءاً من المشكلة وليس النظام فقط، مع أنني أميل إلى اعتبار النظام مسؤولاً عن تشجيع مثل هذه الثقافة نتيجة الوفرة الزائدة من السيولة في أمريكا وكثرة الدعايا الاستهلاكية التي تقودها البنوك والشركات لإغراء الجمهور على ثقافة الاستهلاك.
الخاتمة: هل يمكن إعادة بناء النظام؟
يختتم فاروفاكيس كتابه بتحذير: إما أن نُعيد تصميم النظام الاقتصادي ليكون عادلًا ومستدامًا، أو سنواجه أزمات أسوأ من 2008. ومع اقتراب أزمة المناخ (التي تُقدّر تكاليفها بـ 23 تريليون دولار بحلول 2050 وفقًا لUN)، باتت الحاجة إلى تغيير أكثر إلحاحًا، ورغم صعوبة الحلول المقترحة، يؤكد الكاتب أن التغيير ليس خيارًا، بل ضرورة لتجنب انهيار شامل.