مخاطر التداول عالي التردد في الأسواق المالية (دروس مستفادة من فيلم وثائقي)

مقدمة

يكشف
الفيلم الوثائقي “
Money
Bots
“،
الذي نشرته قناة “
Moconomy” على منصة يوتيوب، بعمق وإتقان عالم التداول عالي التردد (HFT) بتعقيداته المذهلة وأثره العميق على الأسواق المالية العالمية.
يقدم هذا المقال تلخيصًا دقيقًا وشاملًا للمعلومات الرئيسية التي استُخلصت من
الفيلم، مع تسليط الضوء على التحول الجذري في كيفية تداول الأسهم؛ حيث انتقل
العالم من الأساليب التقليدية القائمة على التفاعل البشري إلى أنظمة آلية فائقة
السرعة تعتمد على الخوارزميات المتقدمة.

نشأة وتطور التداول عالي
التردد: من التداول اليدوي إلى الخوارزميات  

برز التداول عالي التردد كقوة
رئيسية في الأسواق المالية الحديثة، مدفوعًا بالتقدم التكنولوجي السريع والرغبة
الملحة لتحقيق سرعة تنفيذ غير مسبوقة. تاريخيًا، كانت الأسواق تعتمد على التداول
اليدوي في قاعات التداول، حيث كان البشر يتفاعلون مباشرة لتنفيذ الصفقات. ومع مرور
الوقت، بدأت الأنظمة الإلكترونية تحل تدريجيًا محل العمليات اليدوية، ليصبح
التداول عالي التردد النسخة الأكثر تطورًا من هذا التحول.  

يعتمد التداول عالي التردد بشكل
كامل على خوارزميات متقدمة وأنظمة حاسوبية فائقة السرعة قادرة على تنفيذ الصفقات
خلال أجزاء من الألف من الثانية. ويمثل هذا التحول قطيعة جذرية مع استراتيجيات
الاستثمار التقليدية طويلة الأجل، التي كانت تعتمد على التحليل الأساسي وتقييم
القيمة على مدى زمني طويل.  

بدأت فكرة التداول عالي التردد
لتلبية رغبة واضحة: استغلال الفرص الصغيرة جدًا التي تنشأ بسبب الفروق الزمنية
الضئيلة بين أسعار الأصول في مختلف البورصات أو بين الأصول الأساسية والمشتقة. ومن
بين اللاعبين الأوائل في هذا المجال شركات التكنولوجيا المالية المتخصصة وبعض
البنوك الاستثمارية الكبرى، التي أدركت الإمكانات الهائلة للسرعة في تحقيق
الأرباح.

السباق التكنولوجي في وول
ستريت: مليارات الدولارات من أجل أجزاء من الألف من الثانية  

تشهد صناعة الخدمات المالية
سباقًا محمومًا نحو التفوق التكنولوجي في مجال التداول عالي التردد. تستثمر
الشركات مليارات الدولارات لتطوير بنى تحتية متطورة تشمل شبكات اتصالات بيانات
فائقة السرعة، مثل كابلات الألياف البصرية التي تربط مراكز البيانات الرئيسية في
وول ستريت بالبورصات حول العالم.  

كما يتم تطوير خوارزميات متقدمة
قادرة على تحليل كميات هائلة من البيانات السوقية واتخاذ قرارات تداول خلال أجزاء
من الثانية. بالإضافة إلى ذلك، تُخصص استثمارات ضخمة لإنشاء مراكز بيانات متخصصة
قريبة من البورصات (
Co-location)، بهدف تقليل
زمن الانتقال (
Latency) إلى الحد
الأدنى.  

هذا التنافس الشرس على السرعة
والتفوق التكنولوجي أحدث تحولًا جذريًا في هيكل السوق، حيث أصبحت السرعة والقدرة
الحاسوبية من أهم عوامل النجاح. وفي ظل هذه الديناميكيات، أصبحت الشركات التي لا
تستطيع مواكبة هذا السباق في وضع تنافسي ضعيف. ومع ذلك، فإن تكلفة هذه البنية
التحتية باهظة للغاية، وتشمل أجهزة متخصصة مثل (
Field-Programmable Gate Arrays – FPGAs)، وبرمجيات
متقدمة، وفرق عمل من المهندسين وعلماء الرياضيات المختصين.

انهيارات الأسواق المفاجئة
وتقلبات السوق: هل التداول عالي التردد يزيد من المخاطر؟  

شهدت الأسواق المالية عدة حوادث
انهيار مفاجئة، مثل أحداث 5 فبراير 2018 و6 مايو 2010 (“
Flash Crash“)، حيث انخفضت أسواق الأسهم بشكل حاد
ومفاجئ في غضون دقائق قبل أن تتعافى جزئيًا أو كليًا. غالبًا ما تُعزى هذه
الانهيارات إلى أنشطة خوارزميات التداول عالي التردد، التي قد تؤدي إلى زيادة
التقلبات السوقية.  

على سبيل المثال، في حالة
Flash Crash” عام 2010،
انخفض مؤشر داو جونز الصناعي بأكثر من 1000 نقطة في دقائق معدودة، مما أثار مخاوف
كبيرة بشأن استقرار الأسواق المالية. وعلى الرغم من أن الأسباب الدقيقة لهذه
الانهيارات قد تكون معقدة ومتعددة، إلا أن دور التداول عالي التردد في تفاقم هذه
التقلبات يظل محور نقاش مستمر.  

الخوارزميات المصممة للتداول
بسرعات فائقة قد تتفاعل بشكل مبالغ فيه مع الأحداث السوقية الصغيرة، مما يؤدي إلى
تضخيم حركات الأسعار وإطلاق حلقات رد فعل سلبية تزيد من حدّة الانهيارات. هناك جدل
واسع حول تأثير التداول عالي التردد على تقلبات السوق؛ إذ يرى البعض أنه يوفر
سيولة ويحسن كفاءة السوق، بينما يرى آخرون أنه يزيد من المخاطر النظامية ويهدد
استقرار الأسواق.

استراتيجيات التداول
الخوارزمية: “لعبة الحجم” والتلاعب المحتمل بالأسواق  

تستخدم شركات التداول عالي
التردد مجموعة متنوعة من الاستراتيجيات المبتكرة لتحقيق الأرباح، مثل خوارزمية
“لعبة الحجم” (
Size
Game
)
التي ابتكرها هايم بوديك. تعتمد هذه الاستراتيجية على وضع وإلغاء طلبات شراء أو
بيع كبيرة بسرعة فائقة، بهدف التلاعب بأسعار السوق واكتساب ميزة
تنافسية.  

على سبيل المثال، قد تقوم
خوارزمية “لعبة الحجم” بإغراق السوق بأوامر بيع وهمية لإعطاء انطباع
زائف بوجود ضغط بيع كبير، مما يدفع المستثمرين الآخرين إلى البيع وبالتالي خفض
السعر. بعد ذلك، تقوم الخوارزمية بإلغاء أوامر البيع الوهمية وشراء الأسهم بسعر أقل.  

تتضمن هذه الاستراتيجيات
المعقدة أيضًا تقنيات مثل المراجحة الإحصائية (
Statistical Arbitrage) والتداول الأمامي (Front-Running). هذه الأساليب تكشف عن التعقيدات والمخاطر
المرتبطة باستخدام الخوارزميات، والتي قد تستغل نقاط الضعف في هيكل السوق لتحقيق
أرباح سريعة على حساب المستثمرين الآخرين. كما تثير هذه الاستراتيجيات تساؤلات
أخلاقية حول عدالة ونزاهة الأسواق، حتى لو كانت قانونية من الناحية الفنية.

التحديات التنظيمية والأسواق
المظلمة: غياب الشفافية وصعوبة الرقابة  

يواجه الإشراف على أنشطة
التداول عالي التردد تحديات تنظيمية كبيرة ومعقدة. أحد هذه التحديات هو ظهور
“الأسواق المظلمة” (
Dark
Markets

أو
Dark Pools)، وهي بورصات
خاصة تفتقر إلى الشفافية مقارنة بالبورصات التقليدية. في هذه الأسواق، لا يتم
الكشف عن أوامر التداول للجمهور قبل التنفيذ، مما يجعل من الصعب على الجهات
التنظيمية مراقبة الأنشطة التجارية واكتشاف التلاعب المحتمل.  

هذا الغياب النسبي للشفافية
يزيد من صعوبة تطبيق لوائح فعالة على التداول عالي التردد. وعلى الرغم من الجهود
التنظيمية، مثل توجيه الأدوات المالية في الأسواق الأوروبية (
MiFID II)، التي تهدف إلى زيادة الشفافية وتنظيم
التداول عالي التردد، إلا أنها غالبًا ما تفشل في معالجة القضايا الجوهرية بسبب
المعارضة القوية من الصناعة المالية والتعقيدات التقنية المتأصلة في طبيعة التداول
نفسه.  

المخاوف الأخلاقية وهيكل السوق:
عدالة الوصول وتأثير التداول عالي التردد على المستثمرين العاديين  

يثار العديد من التساؤلات
الأخلاقية حول عدالة ونزاهة التداول عالي التردد وتأثيره على هيكل السوق بشكل عام.
هناك ممارسات تعسفية داخل الصناعة، وتحديات كبيرة تواجه أي محاولة لإصلاح نظام
يبدو مصممًا لصالح عدد قليل من الشركات الكبيرة المتخصصة في التكنولوجيا
المالية.  

هناك مخاوف متزايدة بشأن عدالة
الوصول إلى الأسواق، حيث تتمتع شركات التداول عالي التردد بمزايا غير متناسبة بسبب
استثماراتها الهائلة في التكنولوجيا والبنية التحتية، مما يضع المستثمرين العاديين
والمؤسسات الصغيرة في وضع تنافسي ضعيف. يبقى السؤال مطروحًا: هل يضيف التداول عالي
التردد قيمة حقيقية للاقتصاد الأوسع أو للمستثمرين على المدى الطويل، أم أنه مجرد
وسيلة لإثراء عدد قليل من الشركات والأفراد الذين يسيطرون على هذه
التكنولوجيا؟  

الجانب الإنساني في عالم
التكنولوجيا المالية: قصة هايم بوديك  

على الرغم من التركيز الكبير
على التكنولوجيا والجوانب التقنية للتداول عالي التردد، تبرز قصص شخصية مؤثرة، مثل
رحلة هايم بوديك، الذي بدأ حياته المهنية كنجم في عالم المال قبل أن يتحول إلى
مبلغ عن المخالفات. تسلط تجربة بوديك الضوء على المعضلات الأخلاقية التي يواجهها
العاملون في هذه الصناعة، والضغوط التي يتعرضون لها لتحقيق الأرباح بأي ثمن، حتى
لو كان ذلك على حساب النزاهة والعدالة في الأسواق.  

خاتمة  

في الختام، يقدم هذا المقال
المستند إلى فيلم “
Money
Bots: High-Frequency Trading Scam
” تحليلًا نقديًا عميقًا وشاملًا للتداول عالي التردد، مع
تسليط الضوء على تعقيداته ومخاطره المحتملة، وآثاره الأخلاقية وهيكله السوقي.
بناءً على المعلومات الواردة في الفيلم الوثائقي، تثار تساؤلات جوهرية حول الفوائد
الحقيقية للتداول عالي التردد للاقتصاد الأوسع والمستثمرين على المدى الطويل.
ويدعو الوثائقي إلى مزيد من الشفافية والتنظيم الفعال في الأسواق المالية، بهدف ضمان
عدالة ونزاهة هذه الأسواق وحماية المستثمرين من المخاطر المحتملة المرتبطة بهذا
النوع من التداول.

من ابن خلدون

مدونة ابن خلدون لنشر المقالات الثقافة والاقتصادية والاجتماعية، وهي تقدم المختصر المفيد من الوثائقيات والبودكاست والبرامج المنشورة على الشبكة العنكبوتية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

You cannot copy content of this page