تتناول ورقة العمل “Technological Disruption in the Labor Market” (الاضطراب التكنولوجي في سوق العمل)، وهي ورقة عمل من المكتب القومي للبحوث الاقتصادية (NBER) تحمل الرقم 33323 وصدرت في يناير 2025 من إعداد David J. Deming و Christopher Ong و Lawrence H. Summers، الآثار العميقة والمتسارعة للتقدم التكنولوجي، لا سيما الذكاء الاصطناعي، على أسواق العمل العالمية، وتبرز الورقة تحولاً نوعياً في طبيعة الأتمتة، حيث لم تعد محصورة بالوظائف الروتينية واليدوية، بل تمتد لتشمل الوظائف ذات المهارات المعرفية العالية، مما يطرح تحديات غير مسبوقة على مستقبل العمل وهيكل الاقتصاد والمجتمع.
النقاط الرئيسية التي تتناولها الورقة بتفصيل أكبر:
-
التحول الجذري في طبيعة الأتمتة وآثارها على المهارات المعرفية:
- تغيير النموذج التقليدي للأتمتة: تاريخياً، ركزت الأتمتة على المهام المتكررة واليدوية التي يمكن بسهولة ترميزها أو إنجازها بواسطة الآلات. أدت هذه الموجة إلى استبدال العمال في قطاعات التصنيع، وبعض وظائف الخدمات الروتينية، وفي المقابل خلقت وظائف جديدة تتطلب مهارات أعلى في التخطيط، والإشراف، والصيانة، والتطوير. هذه الديناميكية ساهمت في استقطاب الأجور للوظائف ذات المهارات العالية ودفع العمال ذوي المهارات المنخفضة نحو وظائف الخدمات ذات الأجور المتدنية أو خارج القوى العاملة.
- صعود الذكاء الاصطناعي التوليدي والمهام المعرفية: ما يميز الموجة الحالية من الاضطراب التكنولوجي، وخاصة مع ظهور الذكاء الاصطناعي التوليدي (Generative AI) ونماذج اللغات الكبيرة (LLMs)، هو قدرتها الفائقة على أداء مهام معرفية معقدة كانت تعتبر سابقًا حكرًا على البشر. تشمل هذه المهام التحليل، والتفكير النقدي، وصياغة النصوص، وتوليد الأفكار، وحتى الإبداع. هذا التطور يعني أن قطاعات مثل المحاسبة، القانون، الاستشارات، التصميم، والبرمجة، التي كانت تعتبر “آمنة” من الأتمتة، أصبحت الآن عرضة لها بشكل مباشر.
- تداعيات على وظائف “المهارات العالية”: يشير المؤلفون إلى أن هذا التوسع في قدرات الأتمتة يضع ضغطًا هائلاً على ما يسمى بوظائف “الياقات البيضاء” (white-collar jobs). بدلاً من استكمال هذه الوظائف، يمكن أن يحل الذكاء الاصطناعي محل مهام بأكملها أو حتى أدوار وظيفية كاملة، مما يتطلب من الأفراد في هذه القطاعات اكتساب مهارات جديدة للعمل جنبًا إلى جنب مع الأنظمة الذكية أو التحول إلى وظائف تتطلب مهارات بشرية فريدة يصعب أتمتتها حالياً، مثل الذكاء الاجتماعي والعاطفي، والإبداع الأصيل، والقيادة، والتفكير الاستراتيجي المعقد.
-
تأثير الذكاء الاصطناعي على الإنتاجية، الأجور، وتوزيع الثروة:
- إمكانات هائلة لزيادة الإنتاجية: يمتلك الذكاء الاصطناعي القدرة على إحداث قفزات هائلة في الإنتاجية عبر مختلف الصناعات. من خلال أتمتة المهام المعقدة وتسريع عمليات صنع القرار، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يقلل التكاليف ويزيد الكفاءة بشكل كبير. هذا يمكن أن يؤدي إلى نمو اقتصادي غير مسبوق وزيادة في إجمالي الثروة المنتجة.
- عدم التوافق بين الإنتاجية والأجور: ومع ذلك، تشير الورقة إلى أن هذه الزيادة في الإنتاجية قد لا تترجم بالضرورة إلى زيادات مماثلة في الأجور لغالبية القوى العاملة. تاريخياً، شهدت العقود الأخيرة انفصالاً متزايداً بين نمو الإنتاجية ونمو أجور العمال، حيث تركزت المكاسب بشكل أكبر في أرباح الشركات وعائدات رأس المال. يمكن للذكاء الاصطناعي أن يفاقم هذا الاتجاه، حيث أن الشركات التي تتبنى هذه التقنيات قد تحتاج إلى عدد أقل من العمال لتحقيق نفس مستوى الإنتاج أو أعلى، مما يقلل من القوة التفاوضية للعمال.
- تركيز الثروة والأرباح: هناك خطر حقيقي من أن تتركز المكاسب الاقتصادية الهائلة الناتجة عن الذكاء الاصطناعي في أيدي عدد قليل من الشركات التكنولوجية العملاقة والأفراد الذين يمتلكون أو يتحكمون في هذه التقنيات (مثل المبرمجين الرئيسيين، رواد الأعمال، وأصحاب رؤوس الأموال). هذا يمكن أن يؤدي إلى “اقتصاد الفائز يأخذ كل شيء” (winner-take-all economy)، حيث تستحوذ شركات قليلة على حصة الأسد من الأرباح السوقية، تاركة القليل لغيرهم.
-
التداعيات العميقة على عدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية:
- فجوة المهارات والدخل: يمكن أن يؤدي الانتشار الواسع للذكاء الاصطناعي إلى تفاقم عدم المساواة الاقتصادية بشكل كبير. العمال الذين يمتلكون المهارات اللازمة للعمل مع الذكاء الاصطناعي (مثل علماء البيانات، مهندسي التعلم الآلي، والمحترفين الذين يمكنهم توجيه وتفسير مخرجات الذكاء الاصطناعي) سيشهدون ارتفاعاً في الطلب على خدماتهم وبالتالي أجورهم. في المقابل، قد يواجه العمال الذين تؤتمت مهامهم خطر فقدان وظائفهم أو تضاؤل أجورهم، مما يزيد من الفجوة بين الأثرياء والفقراء.
- التعليم كعامل حاسم: يصبح التعليم والتدريب المستمر أكثر أهمية من أي وقت مضى. الأفراد الذين لا يستطيعون التكيف مع المتطلبات الجديدة لسوق العمل قد يجدون أنفسهم مهمشين اقتصادياً. وهذا يطرح تحدياً كبيراً لأنظمة التعليم والتدريب الحالية لضمان توفير الفرص للجميع لاكتساب المهارات اللازمة للنجاح في اقتصاد يعتمد على الذكاء الاصطناعي.
- التأثير الاجتماعي الأوسع: يتجاوز تأثير عدم المساواة الجانب الاقتصادي ليشمل الجانب الاجتماعي. يمكن أن تؤدي البطالة التكنولوجية الواسعة النطاق أو تدهور جودة الوظائف إلى تفكك اجتماعي، وزيادة التوترات، وتحديات للديمقراطية، حيث يشعر قطاع كبير من السكان بأنهم متخلفون عن الركب.
-
التحديات السياسية والمجتمعية الملحة:
- إعادة هيكلة القوى العاملة: تواجه الحكومات والمجتمعات تحديًا هائلاً في إعادة تدريب وتأهيل ملايين العمال الذين قد تتغير طبيعة وظائفهم أو تختفي تمامًا. يتطلب هذا استثمارات ضخمة في برامج التعليم والتدريب المهني المستمر، مع التركيز على المهارات التي يكمل فيها البشر الآلات (مثل الإبداع، التفكير النقدي، حل المشكلات المعقدة، والمهارات الاجتماعية).
- شبكات الأمان الاجتماعي الجديدة: مع تزايد عدم اليقين في سوق العمل، قد تحتاج الدول إلى إعادة التفكير في شبكات الأمان الاجتماعي. قد يشمل ذلك توسيع نطاق برامج التأمين ضد البطالة، أو النظر في مفاهيم مثل الدخل الأساسي الشامل (Universal Basic Income) لضمان مستوى معيشي أساسي للجميع، بغض النظر عن وضعهم الوظيفي.
- إعادة التفكير في نماذج التعليم: لم يعد التعليم التقليدي كافيًا لإعداد الأجيال الجديدة لسوق عمل سريع التغير. يجب أن تركز المناهج الدراسية على تطوير مهارات القرن الحادي والعشرين، مثل التفكير الحسابي، ومحو الأمية الرقمية، والتفكير النقدي، والقدرة على التكيف والتعلم مدى الحياة. كما أن الجامعات ومؤسسات التعليم العالي ستحتاج إلى التكيف لتقديم برامج تدريب مستمرة للبالغين.
- التكيف مع واقع العمل المتغير: تشير الورقة إلى أن المجتمعات قد تحتاج إلى التكيف مع واقع تقل فيه الحاجة إلى العمل البشري في العديد من المجالات، مما يثير تساؤلات فلسفية واجتماعية حول معنى العمل، والرفاهية، وكيفية بناء مجتمع منتج ومزدهر في ظل وفرة تكنولوجية غير مسبوقة.
-
الخاتمة والتوصيات الضمنية:
- الحاجة إلى سياسات استباقية: على الرغم من أن الورقة هي ورقة عمل ولا تقدم توصيات سياسية شاملة ومحددة، إلا أنها تلمح بقوة إلى ضرورة اتخاذ إجراءات سياسية استباقية وغير مسبوقة لمواجهة هذه التحديات. لا يمكن للمجتمعات أن تعتمد على آليات السوق وحدها لحل المشكلات الناجمة عن هذا التحول التكنولوجي.
- دعم العمال المتأثرين: يتوجب على الحكومات والقطاع الخاص والمؤسسات التعليمية العمل معاً لدعم العمال المتأثرين بالاضطراب التكنولوجي من خلال برامج إعادة التدريب والتأهيل.
- توزيع أوسع للمكاسب: يجب استكشاف سبل مبتكرة لضمان توزيع أوسع لمكاسب الإنتاجية الناتجة عن الذكاء الاصطناعي، سواء من خلال السياسات الضريبية، أو الاستثمار في الخدمات العامة، أو آليات جديدة للمشاركة في الأرباح.
- التفكير في المستقبل: تختتم الورقة بالإشارة إلى أن فهم هذه الديناميكيات الجديدة أمر بالغ الأهمية لتطوير استجابات سياسية فعالة تضمن أن يؤدي التقدم التكنولوجي إلى مستقبل اقتصادي أكثر ازدهارًا وعدلاً، بدلاً من تفاقم عدم المساواة والتفكك الاجتماعي.
يمكن تحميل الورقة من خلال الضغط على الرابط التالي: w33323