صراع العمالقة: من حرب تجارية إلى معركة تكنولوجية

استنادًا إلى المحتوى الوارد في فيديو يوتيوب بعنوان “كيف بنت الصين جيشًا من المهندسين؟”، يُمكن تحليل الصراع بين الولايات المتحدة والصين ليس فقط كحرب تجارية، بل كجزء من حرب استراتيجية أوسع نطاقًا للسيطرة على المستقبل التكنولوجي والاقتصادي العالمي. يتجاوز هذا الصراع مجرد الرسوم الجمركية ليشمل التنافس على الموارد البشرية، والابتكار، والتحكم في سلاسل الإمداد، مما يفرض تحديات جديدة على القوى العظمى في العالم.

الإنتاج الضخم للمهندسين: آلة أكاديمية لا تتوقف

تُعد الصين قوة إنتاجية ضخمة في مجال الموارد البشرية المتخصصة. فبينما كان التركيز في الماضي على الكمية، أصبح اليوم على الجودة والتوجه نحو التخصصات المستقبلية.

  • أرقام صادمة: تخرج الصين سنويًا أكثر من 1.5 مليون مهندس، وهو رقم يتجاوز إجمالي ما تخرجه الولايات المتحدة، وأوروبا، واليابان مجتمعين. هذا الإنتاج الضخم يضمن تدفقًا مستمرًا للمواهب إلى القطاع الصناعي والبحثي.
  • التركيز على الدراسات العليا: لا يقتصر الأمر على الخريجين الجامعيين، حيث يوضح الفيديو أن عدد الحاصلين على درجة الدكتوراه في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM) في الصين سيتجاوز 77 ألفًا في عام 2025، وهو ما يمثل ضعف العدد المتوقع في الولايات المتحدة. هذا يشير إلى أن الصين تركز على بناء قادة الأبحاث والابتكار، وليس فقط العمالة الماهرة.
  • التفوق الكمي: في عام 2021، أنتجت الصين 49% من خريجي مجالات STEM على مستوى العالم، مما يبرز هيمنتها في هذا المجال بشكل لا يمكن إنكاره.

خطة “صنع في الصين 2025”: الانتقال من “المصنع” إلى “المبتكر”

تعتبر هذه الخطة الوطنية الحجر الأساس في الاستراتيجية الصينية للتحول التكنولوجي. تم إطلاقها في عام 2015 بهدف التخلص من الاعتماد على التكنولوجيا الأجنبية.

  • أهداف طموحة: تهدف الخطة إلى زيادة نسبة المكونات المحلية في الصناعات التكنولوجية الأساسية إلى 70% بحلول عام 2025. وهذا يتطلب توجيه استثمارات ضخمة في مجالات حيوية مثل الروبوتات المتقدمة، وأدوات الآلات عالية الدقة، والمعدات الطبية الحيوية، والسيارات الكهربائية، والجيل الجديد من تكنولوجيا المعلومات.
  • التحكم في سلاسل الإمداد: تهدف الخطة في جوهرها إلى ضمان استقلالية الصين عن سلاسل الإمداد الغربية، وتحويلها إلى قوة لا يمكن لأحد أن يفرض عليها قيودًا في مجال التكنولوجيا.

إعادة هيكلة التعليم: التركيز على المستقبل

أعادت الصين تصميم نظامها التعليمي من الألف إلى الياء ليتوافق مع أهدافها الاستراتيجية.

  • استهداف التخصصات المتقدمة: تم توجيه الموارد الأكاديمية نحو تخصصات المستقبل مثل الحوسبة الكمومية، والذكاء الاصطناعي، والدوائر المتكاملة، وأشباه الموصلات. وفي المقابل، تم تقليل أو حتى إلغاء تخصصات “تقليدية” مثل التاريخ والأدب في بعض الجامعات بهدف إعادة توجيه الطلاب نحو المجالات الأكثر أهمية للدولة.

جذب الكفاءات من الخارج: “النزوح العكسي للأدمغة”

تدرك الصين أن بناء القدرات من الداخل وحدها لا يكفي، ولذلك تعمل على استعادة عقولها المهاجرة وجذب الخبراء الأجانب.

  • عودة النخبة: منذ عام 2017، عاد 80% من الطلاب الصينيين الذين درسوا في الخارج، مما يشير إلى نجاح برامج الجذب التي تقدمها الحكومة.
  • برامج مغرية: أطلقت الصين برامج مثل “خطة الألف موهبة”، التي تقدم رواتب مغرية، وتمويلًا ضخمًا للأبحاث، ومزايا إضافية مثل السكن والمدارس لأبناء الخبراء. هذه البرامج تهدف إلى تحويل نزيف الأدمغة إلى نزوح عكسي يعزز قدرات الصين.

 “جيش” المهندسين العسكري: دمج المدني بالعسكري

لا تقتصر الاستراتيجية على الجانب الاقتصادي، بل تمتد إلى الجانب العسكري عبر سياسة الاندماج المدني-العسكري.

  • أكاديميات متخصصة: أنشأت الصين أكاديميات عسكرية متخصصة لتدريب المهندسين على حروب الجيل الجديد، مع التركيز على الذكاء الاصطناعي، والتحكم بالشبكات، والحروب الإلكترونية.
  • تطبيق الأبحاث المدنية: يتم تشجيع الجامعات والمؤسسات البحثية المدنية على التعاون مع الجيش لضمان تطبيق الاكتشافات العلمية في المجالات الدفاعية بشكل مباشر وفعال.

نظام “الجاوكاو”: آلية لاختيار النخبة

يُعتبر اختبار القبول الجامعي الموحد في الصين، والمعروف باسم “الجاوكاو”، أحد أهم أدوات هذه الاستراتيجية.

  • التركيز على المذاكرة: يتطلب الاختبار مذاكرة مكثفة على مدار سنوات، مما يجعله آلية فعالة لاختيار النخبة الأكاديمية القادرة على تحمل الضغط والتفوق في المجالات الصعبة.
  • انتقادات: رغم فعاليته، يواجه النظام انتقادات بأنه يقتل الإبداع ويخلق بيئة تنافسية شديدة القسوة.

تحديات الصين ورد الفعل العالمي

  • نقص الكفاءات: رغم الأعداد الهائلة من الخريجين، تواجه الصين نقصًا متوقعًا في أعداد المتخصصين في مجالات دقيقة مثل الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات، مما يدفعها لتقديم مكافآت ضخمة لجذب الخبراء من الخارج.
  • بطالة الشباب: يعاني قطاع كبير من السكان، خاصة في الأرياف، من نقص المهارات اللازمة للعمل في القطاعات التقنية، مما أدى إلى ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب.

في المقابل، تحاول الولايات المتحدة وأوروبا اللحاق بالركب عبر قوانين مثل “قانون الرقائق والعلوم الأمريكي” و**”قانون الرقائق الأوروبي”** التي تخصص استثمارات ضخمة لدعم صناعة الرقائق والأبحاث. ومع ذلك، تواجه الدول الغربية تحديًا كبيرًا في نقص المهندسين، كما أن عليها التعامل مع التناقض المتمثل في الاعتماد على المواهب الصينية في تطوير التكنولوجيا، في الوقت الذي تحاول فيه الحد من نفوذ الصين.

من ابن خلدون

مدونة ابن خلدون لنشر المقالات الثقافة والاقتصادية والاجتماعية، وهي تقدم المختصر المفيد من الوثائقيات والبودكاست والبرامج المنشورة على الشبكة العنكبوتية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

You cannot copy content of this page